فصل: تفسير الآيات (87- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (87- 96):

{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)}
{قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي بملك أمرنا، وقيل باختيارنا وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه {ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم} أي حملنا مع أنفسنا ما كان قد استعرناه من قوم فرعون، والأوزار الأثقال سميت أوزاراً لكثرتها وثقلها وقيل الأوزار الآثام، أي حملنا آثاماً وذلك أن بني إسرائيل استعاروا حلياً من القبط ولم يردوها وبقيت معهم إلى حين خروجهم من مصر وقيل إن الله لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذها بنو إسرائيل فكانت غنيمة ولم تكن الغنائم تحل لهم {فقذفناها} أي ألقيناها قيل إن السامري قال لهم احفروا حفيرة وألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه فيها. وقيل إن هارون أمرهم بذلك ففعلوا {فكذلك ألقى السامري} أي ما كان معه من الحلي فيها، قال ابن عباس: أوقد هارون ناراً وقال اقذفوا ما معكم فيها، وقيل إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال هارون أللهم اعطه ما سألك على ما في نفسه. فألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل في فم العجل وقال كن عجلاً يخور فكان كذلك. بدعوة من هارون فذلك قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار} اختلفوا هل كان الجسد حياً أم لا على قولين أحدهما لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل فيها الريح صوت كصوت العجل. الثاني: أنه صار حياً وخار كما يخور العجل {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} يعني قال ذلك السامري ومن تابعه من افتتن به. وقيل عكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط مثله {فنسي} قيل هو إخبار عن قول السامري أي إن موسى نسي إلهه وتركه ها هنا وذهب يطلبه. وقيل معناه أن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر فأخطأ الطريق وضل. وقيل هو من كلام الله تعالى وكأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء. ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً} أي إن العجل لا يرد لهم جواباً إذ دعوه ولا يكلمهم {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} هذا توبيخ لهم إذ عبد وا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبد ه وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.
قوله عز وجل: {ولقد قال لهم هارون من قبل} أي من قبل رجوع موسى {يا قوم إنما فتنتم به} أي ابتليتم بالعجل {وإن ربكم الرحمن فاتبعوني} على ديني في عبادة الله {وأطيعوا أمري} يعني في ترك عبادة العجل.
اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولاً عن الباطل بقوله: {إنما فتنتم به} ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله: {إن ربكم الرحمن} ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله: {فاتبعوني} ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله: {وأطيعوا أمري} فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لابد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة. وإنما قال وإن ربكم الرحن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود {قالوا لن نبرح} يعني لن نزال {عليه} يعني على عبادة العجل {عاكفين} يعني مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفاً الذي لم يعبد وا العجل. فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله و{قال} له {يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا} أي أشركوا {ألا تتبعن} أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني ولو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجراً لهم عما أتوه {أفعصيت أمري} يعني خالفت أمري {قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه {إني خشيت أن تقول} يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول: {فرقت بين بني إسرائيل} يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزاباً فيتقاتلون، فتقول فرقت بني إسرائيل {ولم ترقب قولي} يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري {قال فما خطبك} يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت {يا سامري قال} يعني السامري {بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول} يعني من تراب حافر فرس جبريل {فنبذتها} يعني فقذفتها في فم العجل فخار. فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار. قلت ذكروا فيه وجهين.
أحدهما: أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذراً عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة. الوجه الثاني: أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس، فلما رآه قال إن لهذا لشأناً فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه، فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد. وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله: {وكذلك سولت} يعني زينت {لي نفسي} وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعله غيري واتبعت فيه هواي.

.تفسير الآيات (97- 108):

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)}
{قال} يعني موسى للسامري {فاذهب فإن لك في الحياة} يعني ما دمت حياً {أن تقول لا مساس} يعني لا تخالط أحداً ولا يخالطك أحد فعوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أوحش منها ولا أعظم وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا مساس لك ولولدك. فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحد وقيل كان إذا مس أحداً. أو مسه أحد حمجمعياً فتحامى الناس وتحاموه وكان لا مساس حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك {وإن لك} يا سامري {موعداً} يعني بعذابك في الآخرة {لن تخلفه} قرئ بكسر اللام ومعناه لن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة، وقرئ بالفتح أي لن تكذبه ولم يخلفكه الله بل يكافئك على فعلك {وانظر لننسفنه} أي لنذرينه {في اليم} يعني في البحر {نسفاً} روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم وحرقه في النار ثم ذراه في البحر وقيل معناه لنحرقنه أي لنبردنه فعلى هذا التأويل لم ينقلب لحماً ودماً فإن ذلك لا يمكن أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها في البحر فلما فرغ موسى من أمر العجل وابطال ما ذهب إليه السامري رجع إلى بيان الدين الحق فقال مخاطباً لبني إسرائيل {إنما إلهكم الله} يعني المستحق للعبادة والتعظيم هو الله {الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} يعني وسع علمه كل شيء وقيل يعلم من يعبد ه.
قوله عز وجل: {كذلك نقص عليك من أنباء} يعني من أخبار {ما قد سبق} يعني الأمم الخالية وقيل ما سبق من الأمور {وقد آتيناك من لدنا ذكراً} وهو القرآن {من أعرض عنه} يعني عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} يعني حملاً ثقيلاً من الإثم {خالدين فيه} يعني مقيمين في عذاب الوزر {وساء لهم يوم القيامة حملاً} يعني بئس ما حملوا أنفسهم من الإثم {يوم ينفخ في الصور} قيل هو قرن ينفخ فيه يدعي به الناس للمحشر والمراد بهذه النفخة النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً} يعني نحشر المجرمين زرق العيون سود الوجوه وقيل عمياً وقي عطشاً {يتخافتون} يعني يتشاورون {بينهم} ويتكلمون خفية {إن لبثتم} يعني مكثتم في الدنيا {إلا عشراً} يعني عشر ليال وقيل في القبور وقيل بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة وذلك أن العذاب رفع عنهم بين النفختين فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا فقال الله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون} يعني يتشاورون فيما بينهم {إذ يقول أمثلهم طريقة} أي أوفاهم وأعدلهم قولاً {إن لبثتم إلا يوماً} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة وقيل نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم قوله عز وجل: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً}.
قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف تكون الجبال يوم القيامة فأنزل الله تعالى هذه الآية والنسف هو القلع اي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثوراً {فيذرها} أي يدع أماكن الجبال من الأرض {قاعاً صفصفاً} أي ارضاً ملساء مستوية لا نبات فيها {لا ترى فيها جوعاً ولا أمتاً} يعني لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً يعني لا ترى وادياً ولا رابية {يومئذ يتبعون الداعي} أي صوت الداعي ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن {لا عوج له} أي لا عوج لهم عن دعائه ولا يزيعون عنه يميناً ولا شمالاً بل يتبعونه سراعاً {وخشعت الأصوات للرحمن} يعني سكنت وذلت وخضعت وضعفت والمراد به أصحاب الأصوات وقيل خضعت الأصوات من شدة الفزع {فلا تسمع إلا همساً} وهو الصوت الخفي قال ابن عباس: هو تحريك الشفاه من غير نطق وقيل أراد بالهمس صوت وطء الأقدام إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل.

.تفسير الآيات (109- 119):

{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}
{يومئذ لا تنفع الشفاعة} لأحد من الناس {إلا من أذن له الرحمن} يعني إلا من أذن له أن يشفع {ورضي له قولاً} قال ابن عباس: يعني قال لا إله إلا الله، وفيه دليل على أنه لا يشفع غير المؤمن، وقيل إن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن يأذن الله له فيها وكان عند الله مرضياً {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} قيل الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي، أي يعلم الله ما قدموا من الأعمال وما خلفوا من الدنيا وقيل الضمير يرجع إلى من أذن له الرحمن وهو الشافع، والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع ثم قال يعلم ما بين أيديهم أي أيدي الشافعين وما خلفهم {ولا يحيطون به علماً} قيل الكناية ترجع إلى ما أي هو يعلم ما بين راجعة إلى الله تعالى أي ولا يحيطون بالله علماً {وعنت الوجوه} يعني ذلت وخضعت في ذلك اليوم ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره وذكر الوجوه وأراد بها المكلفين لأن عنت من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وفيها يظهر وقوله تعالى: {للحي القيوم} تقدم تفسيره {وقد خاب من حمل ظلماً}.
قال ابن عباس خسر من أشرك بالله {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هظماً} قال ابن عباس معناه لا يخاف أن يزاد على سيئاته ولا ينقص من حسناته، وقيل لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه} أي كما بينا في هذه السورة أو هذه الآية المتضمنة للوحيد أنزلنا القرآن كله كذلك وقوله: {قرآناً عربياً} أي بلسان العرب ليفهمون ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر {وصرفنا فيه من الوعيد} أي كررنا وفصلنا القول فيه بذكر الوعيد ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد بهما يتعلق فتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال تعالى: {لعلهم يتقون} أي يجتنبون الشرك والمحارم وترك الواجبات {أو يحدث لهم ذكراً} أي إنما أنزلنا القرآن ليصبروا متقين مجتنبين ما لا ينبغي ويحدث لهم القرآن ذكراً يرغبهم في الطاعات وفعل ما ينبغي، وقيل معناه يجدد لهم القرآن عبرة وعظة فيعتبرون ويتعظون بذكر عقاب الله الأمم قوله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق} أي جل الله وعظم عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون والجاحدون وقيل فيه تنبيه على ما يلزم خلقه من تعظيمه وتمجيده، وقيل إنما وصف نفسه بالملك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره وأولى به منه {ولا تعجل بالقرآن} أراد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادره فيقرأ معه أن يفرغ جبريل مما يريده من التلاوة ومخافة الانفلات أو النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك فقال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} أي ولا تعجل بقراءته {من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ وقيل معناه لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معناه {وقل رب زدني علماً} فيه التواضع والشكر لله والمعنى زدني علماً إلى ما علمت فإن لك في كل شيء علماً وحكمة، قيل ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول اللهم زدني علماً وإيماناً ويقيناً قوله عز وجل: {ولقد عهدنا إلى آدم} يعني أمرنا وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة {من قبل} أي من هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى: {لعلهم يتقون} {فنسي} أي فترك ما عهدنا إليه من الاحتراز عن أكل هذه الشجرة وأكل منها، وقيل أراد النسيان الذي هو ضد الذكر {ولم نجد له عزماً} أي صبراً عما نهي عنه وحفظاً لما أمر به، وقيل معناه لم نجد له رأياً معزوماً حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له، وقيل معناه لم نجد له عزماً على المقام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب قوله عز وجل: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس إبى} أن يسجد {فقلنا يا آدم إن هذا} أي إبليس {عدو لك ولزوجتك} إي حواء وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدواً له {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أسند الخروج إليه، وإن كان الله تعالى هو المخرج لأنه لما كان بوسوسته وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك. ومعنى تشقى تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، وهو الحرث والزرع والحصد والطحن والخبز قيل أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فكان ذلك شقاءه. فإن قلت لم أسند الشقاء إلى آدم دون حواء.
قلت فيه وجهان أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم. الثاني: إنه أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته {إن لك أن لا تجوع فيها} يعني الجنة {ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها} أي تعطش {ولا تضحى} أي تبرز للشمس فيؤذيك حرها لأنه ليس في الجنة شمس وأهلها في ظل ممدود والمعنى أن الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة وإنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى أهل الدنيا.